الكاتبة سهام الوهيبي تكتب: عالَم أسوَد!

الكاتبة سهام الوهيبي
الكاتبة سهام الوهيبي

 

 

سَمِع طرقاتٍ تُنذِر بسوء، تَوجَّم قليلًا ثم نَهَض ليرَى ما يحدث..

وجد أمامه وحشًا ذا أنيابٍ بارزة..

خَشِيَ على نفسِه ولم يَعرِفه في البداية، وهَمَّ بالهروب؛ استَوقَفَه سائلًا: لِمَ الخَوف؟، لم أقصِد إخافتَك، ألسنا صديقين؟!

أجاب بحذر: نعم.. لكن، كيف أتَيتَ إلى هُنا؟!

حُدودُك الإطار؛ هناك فقط، أما هذا فعالمي أنا، فَاجَأَتني رُؤيتُك..

- نعم.. نعم.. لكنني أتيتُ لتحقيقِ حُلمٍ يُراودنُي.

- حُلم؟! ، أي حُلم؟!، هل أنت تَحلُم مِثلَنا؟!

- أجل.. أوَلَستُ مَخلوقًا يَرى ويَشعُر مِثلَكم تمامًا؟!.

متمتمًا: بالتأكيد لَستَ مِثلَنا.

- ماذا؟!، لقد سَمِعتُك.

- لا تُلقِ بالًا لِمَا أقول.. لقد كنتُ على وشكِ النَّوم؛ لكنني تَنبَّهتُ لطَرقاتِك فَنهَضت.

- نعم.. أعلمُ هذا جيدًا.. و كُنتُ أَقصدُه..

- لِمَ؟.

- لأنك الوحيد الذي يعرف كيف يُساعدني، بل إنك تَفهَمني أكثرَ من نفسي.

- دعني الآن.. لا أستطيع استكمالَ كَلامِنا.. سأنام.

فَشِلَت محاولاتُ المخلوقِ العجيبِ لِرَدِّه عن النوم وجَعلِه يُساعدُه..

ثم قال المخلوق: حسنًا.. سأحاولُ جاهِدًا وحدي بدونِك..

إنني دومًا وحيدٌ بِسببِك، ليس لي صديقٌ أو رفيق..

لقد جَعلتَني مَنبوذًا، لكنني سأكون مَحبوبًا كما أرغب..

ليتَني ما لجأتُ إليك، لقد أَحبَطتَ أَمَلِي الذي أنشُدُه!.

لكن.. لن أَدَعَ اليَأسَ يَهزِمُني.

سار ساعاتٍ في الشوارع.. يَنبَهر بما يرى؛ من أضواءٍ وزينة، ويسمع ضحكات متنوِّعة تثير شجنَهُ الدفين على حالِه.

لكن ما أثار مشاعِرَهُ في الحقيقة تلك الطائرة الورقية التي تعلو في السماء.. إن الأطفال يضحكون من قلوبهم مستمتعين بها.. رغم أنها بعيدةٌ عنهم..!

نظر بحسرةٍ وقال: كم أتمنى أن أكون مثلها..

هذا ما أبحثُ عنه بالفِعل.. أن أكونَ مَقبولًا، مُلهِمًا، أُضفِي البَسمةَ على القلوبِ قبل الوجوه؛ كي أغيِّرَ ما فَعلَه بي وجعلني مَكروهًا من الجميع..

وانتزَعَ الفَوزَ لنَفسِه غير مُبالٍ بي..

سأبدأ بنَزعِ تلك الأنيابِ الغريبة وأجعلها عادية؛ كما هو حالها عند الأشخاص العاديين، أعلم أن هذا سيجعلني مقبولًا نوعًا ما.

وتلك البُقعَة الداكنة أسفل العينين؛ سأجعلها بلَونِ البَشرَةِ العادية..

العينان الحمراوان؛ سأجعلهما لونًا عَسليًا؛ لطالما أردتُ أن أكونَ مثل الفتاةِ التي معي في كوني المحدود ذات العَينَين العَسليَّتَين والبشرة البيضاء..

ليست هي فقط.. بل جَميعُهم كذلك ما عدا أنا..

رغم رَحَابةِ الكَونِ وعددهم وأنني الوحيد بهذا الشكل الاستثنائي؛ إلا أنني أرى الجميعَ يَنسَونَهُم و يَتذكَّرُوني..!

هذا حَسَنٌ لكنه غيرُ كافٍ، أريدُ أن أَشعُرَ أنني مَحبُوب.. مُرَحَّبٌ بي دَومًا بِلا نُفُور..

لقد تَرَكتُ عَالَمي وأَتَيتُ لأُصبِحَ مِثلَهم؛ لكنني أرَاهُم حَيَارَى!، رغم أشكَالِهم الطبيعية غير المُنفِّرَة..

أتمنى أن يكونَ شكلي الظاهري كما قلبي وأعماقِه، لن يَسَعَ الكَونُ فَرحَتي آنذاك..

لَيتَهُم ينظرون إلى داخلي.. لم أَصنَع نَفسي بهذا الشَّكلِ المُرِيع، بل هو مَن فَعَل..

لم يُحاسِبُوه، بل حَمَلُوه على الأعناقِ لِفِكرتِه العَبقرِيةِ تلك..!

رغم ظُلمِه لي؛ هُم يَرَون أنَّه عبقري!

سأبدأ فورًا التغيير؛ دون حاجةٍ للمساعدة، سأُرغمهُم على تَقبُّلِهِم لي....

حَسنًا.. سأبدأ بشكلي الظاهري؛ قد يَعكِسُ لهم ما بداخلي..

لقد انتَهَيتُ الآن من الأسنانِ والبَشرَةِ والعَينَين..

سأكمِل..

.

.

.

.

.

الموضوع جَدٌ مُرهِق.. إنني أَتصبَّبُ عَرَقًا..

لا أحتملُ هذا الجَهد.. ولا أَشعرُ أنَّهُم سيَتقبَّلُون هَيئتي الجديدة.. سأكون عَادِيًّا بالنسبةِ لهم..

نعم، لقد فهمت.. إنَّهم يَكرهُونَني لأنَّني أُمثِّلُ جَانِبَهُم المُظلِم، الخَفِيّ، يَخشَون أن يَكتشفَهُم الآخَرون فيَصُبُّون لَعناتِهِم عَليَّ، وكأنَّهُم رافضين للشَّر، هُم الملائكة وأنا شيطان..!

سأعود إلى اللَّوحةِ من جديد؛ دُونَ إكمالِ التَّغيير الذي أَرهقَني.. مُمتنًّا لِمَا اكتَشَفتُه عن عَالَمِهم الأَسوَد، وسأبقَى كما أنا.. مُختلِف!.

في الصباح، استيقَظَ الرَّسَّامُ من نَومِه على نظراتٍ دامعَةٍ دامِيَة؛ من الشَّخصيةِ الخَارِقة التي يَرَى إبداعَهُ فيها؛ وتَظَل أمَامَهُ لَيلًا ونَهارًا لكي يَفتخِرَ بنَفسِه وبِجَائزَتِه الأُسطُورِيةِ عنها.. لم يكترث بما سبَّبَه من أحزان..

و أَعادَها إلى سِيرتِها الأولى.